الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
رسول الله الأمين وخاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى
يوم الدين.
أما بعدُ:
فقد تحولت
العلوم الإنسانية في العصر الحديث، من البحث في مجالات التقاطع والتشابه، إلى
البحث في التداخل والتكامل بين حقولها المعرفية (علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلوم
الاتصال، والعلوم المعرفية، والفلسفة، والمنطق، والسيميائيات، واللسانيات...)، وقاد
هذا التداخل والتكامل إلى ظهور اتجاه وظيفي تواصلي يرى في اللغة والعمل الإبداعي
ظاهرة اجتماعية، يجب أن تدرس على هذا الأساس، ومنذ نهايات القرن العشرين بدأ
الاهتمام بالاتجاه الوظيفي التواصلي يتزايد يوماً بعد يوم، ويرسم حدوداً واضحة على
خريطة البحث الإنساني المعاصر، تشهد على ذلك آلاف المقالات وعشرات الكتب التي تصدر
هنا وهناك وبأكثر من لغة في محاولة لاستجلاء معالم هذا الاتجاه ولإبراز خصوصياته،
وتحديد مجالاته التطبيقية العملية، وقد انبثقت من هذا الاتجاه الحديث تيارات كثيرة
منها التيار التداولي الذي يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، وطرائق استعمال
العلاقات اللغوية وكيفياتها بنجاح، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي
يُنجزُ ضمنها ((الخطاب))، والبحث عن العوامل التي تجعل من ((الخطاب)) رسالة
تواصلية واضحة وناجحة، والبحث في أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية ...الخ.
إن
التداولية تجعل من المقصد والمقام قاعدة متينة في مقاربة الخطابات المختلفة، وهو
ما لم تكن المناهج الأخرى تهتم له كثيراً؛ لتركيزها على البنية اللسانية وتتبع
خصائص اللغة بدءاً من أولى مستوياتها، أعني الجانب الصوتي، وصولاً إلى ذروة
التفاعل: الدلالة، مروراً بمستوى التركيب بما يضم من الصياغات الصرفية، ومن ثمة
عنيت التداولية بالمتكلم ومقاصده بوصفه عنصراً فاعلاً في عملية التواصل، ومنحت
أهمية للظروف المقامية بوصفها عناصر مساعدة في تأدية هذه المقاصد، وعولت كثيراً
على استغلال المستمع الظروف السياقية في سبيل الوصول إلى المعنى الذي قصده
المتكلم.
وبما أن
التداولية لها القدرة على استدعاء جوانب غير لسانية في عملية النقد والتحليل في
الخطاب فقد وقع اختيارنا على هذا المنهج؛ لمقاربة أبرز الفنون الشعرية على الإطلاق
(المديح) مقاربة تبتعد عما اعتادت عليه معظم الدراسات الأدبية التي تناولت هذا
الشعر من الوجهة الفنية أو الشكلية فحسب، أما كيف أُنجز هذا العمل، ومن أنجزه،
ولماذا أُنجز؟ وما دلالته بالنسبة لمن أنجزه ولمن تلقاه؟ وما هي المضامين والرؤى
التي تحملها؟ فأسئلة لا نجد لها جواباً، إن شعر المديح عامة وشعر مديح الخلفاء
والأمراء خاصة لا يخضع للشروط الجمالية وحدها، وإنما تُراعى كذلك الشروط التداولية
والاجتماعية التي تقتضي صوراً من السلوك القولي بحسب المقامات استجابة لقانون عام
يحكم التواصل الإنساني بمجمله، وهو الذي يقضي بأن نجاح التواصل لا يتمُّ إلا
بالاستجابة لقوانين التداول من تعاون وتأدب ولياقة... ولما كانت هذه القوانين تسمو
بالتواصل العادي فهي أولى بأن تسمو بالقول الشعري الذي يُطلب في أصله الكمال
والجمال، فكيف يترك الشاعر السمو وهو مطلبه وأقصى ما ينشده؟ إن الشعر الذي قيل بين
يدي الخلفاء والأمراء يقتضي منا ضروباً خاصة من الاشتغال النقدي، فكانت التداولية
المنهج الأنسب لمقاربة هذا النوع من الشعر.
لذا جاءت خطة هذا البحث مكونة من تمهيد وثلاثة
فصول، وقد قسمنا كل فصل على مبحثين، واتبعنا ذلك كله بخلاصة.
أما
التمهيد فأردنا أن نبرز فيه مفهوم التداولية والجذور التاريخية للتداولية،
والتعريف بأهم مرتكزاتها، مع تحديد للمفاهيم والمبادئ الأساس في هذا المنهج، التي
تمَّ توظيفها في الفصول التطبيقية، وفي نهاية التمهيد كانت لدينا وقفة في بيان
احتواء الدرس العربي القديم على مباحث وأفكار ذات توجهات وإجراءات تداولية.
وأما
الفصل الأول فقد جاء بعنوان المتكلم ومقتضيات خطاب الخلفاء، وتناولنا فيه طرفي
الخطاب؛ أي: كلاً من المتكلم والمخاطَب، وهما قطبا العملية التواصلية، وكيفية
اختيار المخاطب الآلية التي توصل فكرته إلى المتلقي، وكيفية قدرته على إنتاج كلام
موائم مع مقتضى الحال، واعتماده على المبادئ التخاطبية السليمة لتحقيق مبتغاه،
فجاء المبحث الأول ليكشف عن أهم تلك المبادئ التخاطبية التي يتوخاها المتكلم عند
مخاطبة الآخر، أما المبحث الثاني من
هذا الفصل فقد تناولنا فيه الافتراضات المسبقة لدى كل من المتكلم والمخاطب؛ إذ
تسهم تلك الافتراضات في إنجاح العملية التخاطبية.
وأما
الفصل الثاني فقد خصصناه لدراسة ظاهرة الأفعال الكلامية، التي تقع في موقع متميز
من المنهج التداولي وتُشكِّل جزءاً أساساً من بُنيته النظرية؛ فتناولنا في المبحث
الأول أهم قضية في أفعال الكلام وهي الإنجازية التي ترى في القصيدة فعلاً أو حدثاً
شعرياً يحمل قوَّة إنجازية معينة ويفضي إلى إحداث أثر ما في المخاطب؛ ذلك أن
للكلام سلطاناً ما بعده سلطان، وأن للكلمات قوة عظيمة لا تخفى، وتأثيراً قوياً لا
ينكر، وفي المبحث الثاني تناولنا الضمنيات التي حملتها الملفوظات الشعرية بوصفها
قيلت في سياق خاص.
وخصصنا
الفصل الثالث والأخير لدراسة الحجاج في شعر مديح الخلفاء؛ إذ يُعدُّ الحجاج باباً
رئيساً في المباحث التداولية بشهادة المختصين في هذا المجال، ونعني بالدراسة في
هذا الفصل النظر في مجموع التقانات التي اعتمدها الشاعر العباسي ليحتجَّ لرأي أو
ليدحض فكرة محاولاً إقناع المتلقي أو المستمع بما يبسطه أو حمله على الإذعان لما
يعرضه، والحجج المستعملة في شعر مديح الخلفاء كثيرة ولعلَّ أبرزها حجة الدليل وحجة
الأنموذج اللتان جاء المبحثان من هذا الفصل للتعريف بهما والوقوف عند أهم
تقاناتهما في شعر مديح الخلفاء، وانتهى البحث بخاتمة حاولنا أن نصوغ فيها النتائج
التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة.
وقد عالج
البحث قضاياه بخطى وئيدة حذرة من مغبة الانزلاق في متاهات تخرج بالبحث عن حدوده
الشرعية ولا سيما في ظِلِّ اتساع الدرس التداولي من جهة وشحِّ ما في المكتبة
العربية إن لم نقل انعدام الجانب المختص بتداولية النص الشعري من جهة أخرى، أملاً
في إضافة شيء ما إلى المكتبة العربية.
وبعدُ،
فإن هذا العمل ما كان له أن يرى النور لولا فضل الباري (I) عليَّ، ومنُّه
بأن هيأ لي مشرفاً قديراً عرف بصبره وبغزارة علمه _ وهو أستاذي_ الأستاذ الدكتور
منتصر عبد القادر الغضنفري فقد رافقني في رحلتي مع البحث في كُلِّ خطوة خطوتها
وكان لملاحظاته العلمية السديدة الأثر البالغ في إنجاز هذا العمل وظهوره على هذه
الصورة، فله مني المودة الكثيرة والشكر العظيم، داعياً المولى القدير أن ينعم عليه
بالصحة والتوفيق.
وأتوجه
بالشكر الجزيل إلى الأستاذ الدكتور عبد الستار عبد الله البدراني الذي لم يبخل
عليَّ بعلمه ونصائحه وتوجيهاته في بدايات هذا البحث.
وأتقدم
بالشكر إلى كل من أمدّ يداً أو قدَّم عوناً في إتمام هذا الجهد المتواضع، وإنني إذ
أُقدّم لهذا البحث أرجو من الله أن أكون قد قدَّمتُ فيه ما هو جديد ومفيد.
وختاماً، أحمد الله العزيز المُعين على ما وفقني إليه،
فله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، وهو الفتاح العليم.